«العظمة» هي ما يسعى إليه ترامب في حرب فنزويلا
«العظمة» هي ما يسعى إليه ترامب في حرب فنزويلا
من بين كل التفسيرات التي يمكن أن تُقدَّم لفهم نهج الرئيس دونالد ترامب العدائي تجاه فنزويلا، من تصويره المواجهة على أنها حرب ضد «إرهابيي المخدرات»، أو بوصفها خطوة للسيطرة على احتياطات النفط، أو محاولة لإحكام النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي، يظل التفسير الأكثر استبعاداً، هو الهدف الذي يطمح إليه أكثر من أي شيء آخر، ألا وهو العظمة.
فبالنسبة لترامب، ليست فنزويلا مسألة جيوسياسية فحسب؛ بل فرصة لقيادة حرب، وهي السمة التي ارتبطت تاريخياً بالرؤساء الأمريكيين الذين يُصنَّفون ضمن «الأعظم».
لا أحد يترشّح للبيت الأبيض ليكون رئيساً عادياً، فلكل رئيس رؤية خاصة لما يعنيه أن يكون عظيماً؛ فبعضهم يرى العظمة في القدرة على اتخاذ القرار في لحظات التحوّل الكبرى، حين يُمزج الحُكم بالشخصية والشجاعة وسط ضباب من الشك. وآخرون يجدونها في مدى خضوع الدولة للسلطة التنفيذية، أو في إنجازات تُنجَز كما لو كانت نقاطاً على قائمة مهام. وبين هؤلاء وأولئك، يبقى السعي لأن يكون أحد «العظماء» واحداً من أعمق هواجس ترامب.
في شهر مارس الماضي، قال ترامب أمام جلسة مشتركة للكونجرس إن الشهر الأول من ولايته الثانية كان «الأكثر نجاحاً في تاريخ البلاد»، ثم أردف: «أتدرون من يأتي في المرتبة الثانية؟ جورج واشنطن».
وفي لقاء مع صحفيين من المؤسسات الإعلامية الأمريكية السوداء، قال: «كنت أفضل رئيس للسود منذ أبراهام لينكولن». وأخيراً، كتب على وسائل التواصل أن سياسة الرهن العقاري لمدة 50 عاماً التي اقترحها تجعله «رئيساً عظيماً مثل فرانكلين روزفلت».
أما سعيه العلني لنيل «جائزة نوبل للسلام»، ووصفه كل خطوة يتخذها بأعلى الأوصاف، وحتى قرار بناء قاعة احتفالات جديدة داخل البيت الأبيض، فهي مؤشرات إضافية على هذا الهاجس المستمر بالمجد.
في الوقت نفسه، حوّلت المؤسسة العسكرية الأمريكية البحر الكاريبي إلى ما يشبه ساحة حرب. فطول أشهر، استهدفت القوات الأمريكية سفناً خاصة في المياه الدولية بدعوى أنها تعمل في تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة.
وقد تحولت الأوامر المزعومة بقتل بحّارة عالقين في تلك العمليات إلى قضية وطنية مستقلة بذاتها، كما أعلن ترامب إغلاق المجال الجوي فوق فنزويلا، فارضاً فعلياً منطقة حظر طيران تجارية.
ويتمركز أكبر أسطول أمريكي في الكاريبي منذ الحرب الباردة على مقربة من السواحل الفنزويلية، ليكون جزءاً من قوة تُقدّر بنحو 15 ألف عنصر. وذهب ترامب أبعد من ذلك بإعلانه عن عمليات سرية جارية داخل فنزويلا، وهي خطوة غير معتادة تكشف عن رغبة في إظهار الاستعداد للمواجهة.
ويؤكد المؤرخون وعلماء السياسة منذ عقود أن الشجاعة والكفاءة في زمن الحرب هما أقوى مؤشرَين على «العظمة الرئاسية». فبعض الرؤساء اكتسب هذه الهالة من الخدمة العسكرية، والبعض الآخر من قيادة البلاد خلال الحروب.
ومع ذلك، تكشف الدراسات أن الرؤساء الذين يقودون البلاد خلال صراعات دامية يحصلون غالباً على تقييمات عليا، وأن الحرب، رغم ذلك، تلحق الضرر بسمعة الرئيس أكثر مما تعزّزها؛ فطريق الحرب ليست طريقاً مختصراً نحو المجد.
والعلامة التي تفضح من يسعون لهذا النوع من المجد هي التناقضات. ففي حملته لنيل «نوبل»، تباهى ترامب بأنه أنهى ثماني حروب، لكنه يبدو اليوم مستعداً لبدء حرب جديدة بلا ضرورة، وأجندته السياسية «أمريكا أولاً» لا تحمل أي دعوة للتوغّل في أراضٍ أجنبية.
ويقدّم تدخله في فنزويلا على أنه حرب على المخدرات، في حين منح العفو لرئيس هندوراس السابق المدان في محاكم أمريكية بإدارة شبكة تهريب مخدرات برعاية الدولة. أما «إظهار القوة» فيتمثّل، بحسب ترامب، في حشد قوة عسكرية هائلة لمواجهة خصم محدود الإمكانات، وتبرير استخدام أساليب سلطوية لإزاحة حاكم سلطوي آخر، تحت شعار «الديمقراطية».
حتى لو كان الهدف الفعلي هو خنق شبكات المخدرات، أو تأمين الموارد، أو منع نفوذ روسيا والصين، فإن الحرب مع فنزويلا هي أسوأ خيار لتحقيق ذلك.
وإذا كان يرى أن الحرب قد تُبعد الأنظار عن تراجع شعبيته، أو عن حملة الترحيل المثيرة للجدل، أو خسائر الجمهوريين الانتخابية، أو الجدل المحيط بقضية جيفري إبستين، فإن أي التفاف وطني مؤقت سيذوب أمام قسوة الحرب. وإن كان يعتقد أن الحرب ستمنحه مزيداً من السلطة، فهو يغفل أن الكونجرس، بقيادته الحالية، قد منح الرئاسة كل ما يمكن أن تُمنحه أصلاً من صلاحيات.
وقد يبدو الانتصار العسكري على فنزويلا أمراً مضموناً، لكنه «انتصار بلا قيمة».
هذا درس تعلّمه رؤساء كُثُر بالطريقة الصعبة، ويبدو أن ترامب يستعد لينضم إليهم. فبالنسبة لمن يبحثون عن المجد، يبدو العالم بأسره خشبة مسرح تنتظر «الرجل العظيم». لكن لو كان بلوغ البطولة مجرد سلسلة من الخطوات التي يمكن اجتيازها بالتدرّج، ما شحّ الأبطال وما كانت للبطولة أية قيمة.
فاحترام الناس لا يمكن صناعته. وسيتعلم ترامب هذا الدرس، إلى جانب درس آخر أشد وقعاً، وهو أنّ ثمن العظمة الحقيقي أكبر بكثير من قدرة من يتعطّشون للتاج على تحمّله.
* نقلاً عن صحيفة “واشنطن بوست”.











